فصل: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} (الحديد: 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{سَابِقُواْ} أي سارِعُوا مسارعةَ المسابقينَ لأقرانهم في المضمار {إلى مَغْفِرَةٍ} عظيمةٍ كائنةٍ {مّن رَّبّكُمْ} أي إلى موجباتِها من الأعمال الصَّالحةِ {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} أي كعرضِهما جميعًا وإذا كانَ عرضُها كذلكَ فما ظنُّك بطولِها، وقيلَ: المرادُ بالعرضِ البسطةُ. وتقديمُ المغفرةِ على الجنةِ لتقديم التخليةِ على التحليةِ. {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} فيه دليلٌ على أنَّ الجنَة مخلوقةٌ بالفعلِ وأنَّ الإيمانَ وحدَهُ كافٍ في استحقاقها {ذلك} الذي وعدَ من المغفرةِ والجنةِ {فَضَّلَ الله} عطاؤُه {يُؤْتِيهُ} تفضلًا وإحسانًا {مَن يَشَاء} إيتاءَهُ إيَّاهُ من غيرِ إيجابِ {والله ذُو الفضل العظيم} ولذلكَ يُؤتى مَن يشاءُ مثلَ ذلكَ الفضلِ الذي لا غايةَ وراءَهُ.
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأرض} كجدبٍ وعاهةٍ في الزرعِ والثمارِ {وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} كمرضٍ وآفةٍ {إِلاَّ في كتاب} أي إلا مكتوبةً مثبتةً في علمِ الله تعالى أو في اللَّوحِ {مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} أي نخلقَ الأنفسَ أو المصائبَ أو الأرضَ {إِنَّ ذلك} أي إثباتَها في كتابٍ {عَلَى الله يَسِيرٌ} لاستغنائِه فيهِ عن العُدَّةِ والمدةِ. {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} أي أخبرناكُم بذلكَ لئلاَّ تحزنُوا {على مَا فَاتَكُمْ} من نعمِ الدُّنيا {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم} أي أعطاكُم الله تعالى منها، فإنَّ من علمَ أنَّ الكلَّ مقدرٌ يفوتُ ما قُدِّرَ فواتُه ويأتي ما قُدِّرَ إتيانُه لا محالةَ لا يعظُم جزعُه على ما فاتَ ولا فرحُه بما هُو آتٍ، وقرئ {بما أَتاكُم} من الإتيانِ. وفي القراءة الأُولى إشعارٌ بأنَّ فواتَ النعمِ يلحقُها إذا خُلِّيتْ وطباعَها وأمَّا حصولُها وبقاؤُها فلابد لهما من سببٍ يُوجدها ويُبقيها، وقرئ {بما أُوتيتُم}. والمرادُ بهِ نفيُ الأَسَى المانعِ عن التسليم لأمر الله تعالى والفرحِ الموجبِ للبطرِ والاختيالِ، ولذلكَ عقبَ بقوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فإنَّ من فرحَ بالحظوظ الدنيويةِ وعظُمتْ في نفسه اختالَ وافتخَر بها لا محالةَ، وفي تخصيص التذييلِ بالنَّهي عن الفرح المذكورِ إيذانٌ بأنَّه أقبحُ من الأَسَى.
{الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} بدلٌ من كلِّ مختالٍ، فإنَّ المختالَ بالمالِ يضنُّ به غالبًا ويأمرُ غيرَهُ به. أو مبتدأٌ خبرُهُ محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فإنَّ معناهُ ومَنْ يُعرضُ عن الإنفاقِ فإنَّ الله غنيٌّ عنْهُ وعنْ إنفاقه محمودٌ في ذاتِه لا يضرُّه الإعراضُ عن شكرهِ بالتقربِ إليهِ بشيءٍ من نعمهِ، وفيه تهديدٌ وإشعارٌ بأنَّ الأمرَ بالإنفاقِ لمصالحةِ المُنفقِ. وقرئ {فإنَّ الله الغنيُّ}.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} أي الملائكةَ إلى الأنبياءِ أو الأنبياءَ إلى الأممِ وهُو الأظهرُ {بالبينات} أي الحججِ والمعجزاتِ {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} أي جنسَ الكتابِ الشاملِ للكُلِّ {والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} أي بالعدلِ. رُويَ (أنَّ جبريلَ عليه السلام نزلَ بالميزانِ فدفعَهُ إلى نوحٍ عليه السلام وقال مُرْ قومَكَ يزنُوا بهِ)، وقيلَ أُريدَ به العدلُ ليقامَ بهِ السياسةُ ويدفعَ به العُدوانُ. {وَأَنزْلْنَا الحديد} قيلَ: نزلَ آدمُ عليه السلام من الجنَّةِ ومعَهُ خمسةُ أشياءَ منْ حديدٍ: السندانُ والكلبتانِ والميقعةُ والمطرقةُ والإبرةُ، ورُويَ ومعَهُ المرُّ والمِسحاتُ. وعنِ الحسنِ: وأنزلنَا الحديدَ خلقنَاهُ كقوله تعالى وأنزلَ لكُم من الأنعامِ وذلكَ أنَّ أوامرَهُ تعالى وقضايَاهُ وأحكامَهُ تنزل من السماءِ. وقوله تعالى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} لأنَّ آلاتِ الحروبِ إنَّما تتخذُ منْهُ {ومنافع لِلنَّاسِ} إذْ مَا من صنعةٍ إلاَّ والحديدُ أو ما يُعملُ بالحديدِ آلتُها. والجملةُ حالٌ من الحديدِ. وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ} عطفٌ على محذوفٍ يدلُّ عليه ما قبلَهُ فإنَّه حالٌ متضمنةٌ للتعليلِ كأنَّه قيلَ ليستعملُوه وليعلمَ الله علمًا يتعلقُ به الجزاءُ من ينصرُه ورسلَهُ باستعمالِ السيوفِ والرماحِ وسائِر الأسلحةِ في مجاهدةِ أعدائِه أو متعلقٌ بمحذوفٍ مؤخرٍ والواوُ اعتراضيةٌ أي وليعلمَ الله مَنْ ينصرُه ورسلَهُ أنزلَه وقيلَ عطفٌ على قوله تعالى: {ليقومَ النَّاسُ بالقسطِ}. وقوله تعالى: {بالغيب} حالٌ من فاعلِ ينصرُ أو مفعولِه أي غائبًا عنْهم أو غائبينَ عنه. وقوله تعالى: {إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ} اعتراضُ تذييليٌّ جىءَ به تحقيقًا للحقِّ وتنبيهًا على أنَّ تكليفَهُم الجهادَ وتعريضَهُم للقتالِ ليسَ لحاجتِه في إعلاءِ كلمتِه وإظهارِ دينِه إلى نصرتِهم بلْ إنَّما هُو لينتفعُوا بهِ ويصلُوا بامتثال الأمر فيه إلى الثوابِ وإلاَّ فهُو غنيٌّ بقدرتِه وعزتِه عنهُم في كلِّ ما يريدُه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وإبراهيم} نوعُ تفصيلٍ لَما أُجملَ في قوله تعالى: {لقد أرسلنَا رسلنَا} إلخ. وتكريرُ القسمِ لإظهار مزيدِ الاعتناءِ بالأمر أيْ وبالله لَقْد أرسلناهُمَا {وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب} يأنِ استنبأناهُم وأوحينَا إليهم الكتبَ وقيلَ المرادُ بالكتابِ الخطُّ بالقلمِ {فَمِنْهُمْ} أي من الذرية أو من المرسل إليهم المدلولِ عليهم بذكر الإرسالِ والمرسلينَ {مُّهْتَدٍ} إلى الحقِّ {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} خارجونَ عن الطريق المستقيمِ، والعدولُ عن سنن المقابلةِ للمبالغةِ في الذمِّ والإيذانِ بغلبةِ الضُّلالِ وكثرتِهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال السبكي:
قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي نَظَرْت يَوْمًا فِي قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} وَأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ، فَقِيلَ نَزَلَ آدَم عليه السلام مِنْ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ حَدِيدِ الْكِلْبَتَانِ وَالسِّنْدَانِ وَالْمِطْرَقَةِ وَالْمِيقَعَةِ وَالْإِبْرَةِ؛ وَالْمِيقَعَةُ خَشَبَةُ الْقَصَّارِ الَّتِي يَدُقُّ عَلَيْهَا، وَعَنْ الْحَسَنِ {أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} خَلَقْنَاهُ، كَقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الْأَنْعَامِ} وَذَلِكَ أَنَّ أَوَامِرَهُ تَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَقَضَايَاهُ وَأَحْكَامُهُ، فَاسْتَحْسَنْت هَذَا الْقول، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ عَنْ الْخَلْقِ وَالْعَلَّاقَةُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالْقَضَايَا وَالْأَحْكَامَ نَازِلَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِحَسَبِ تَسْمِيَةِ الْمَخْلُوقِ بِالْمُنْزَلِ لِذَلِكَ، لِأَنَّ كِلَاهُمَا مِنْ الْقَضَايَا الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَضَايَا، ثُمَّ فَكَّرْت فِي كَوْنِ الْقَضَاءِ وَالْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ نَازِلَةً مِنْ السَّمَاءِ فَوَقَعَ لِي أَنَّهَا جِهَةُ الْعُلُوِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ وَمَقْضِيٌّ عَلَيْهِ وَمَحْكُومٌ عَلَيْهِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَ مَحَلُّهُ التَّسَافُلُ وَالذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ، وَالْأَوَامِرُ الْوَارِدَةُ عَلَيْهِ مَحَلُّهَا الْعُلُوُّ وَالِاسْتِعْلَاءُ وَالْقَهْرُ، وَذَلِكَ عُلُوٌّ مَعْنَوِيٌّ، وَالْعُلُوُّ الْمَعْنَوِيُّ يُنَاسِبُهُ الْعُلُوُّ الْحِسِّيُّ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأَوَامِرُ تَأْتِي مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ؛ وَالسَّمَاءُ مُحِيطَةٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ؛ فَجُعِلَتْ الْأَوَامِرُ مِنْهَا، وَالْمَأْمُورُ فِي الْحَضِيضِ مِنْهَا لِيَرَى نَفْسَهُ أَبَدًا سَافِلًا رُتْبَةً وَصُورَةً تَحْتَ الْأَوَامِرِ لِيَنْقَادَ إلَيْهَا، وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ، حَتَّى لَا تَتَكَبَّرَ نَفْسُهُ فَيَهْلَكُ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي تَخْصِيصِ السَّمَاءِ بِمَجِيءِ الْأَوَامِرِ مِنْهَا، وَكَانَ فِي الْإِمْكَانِ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَعَلَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ خَلَقَ اللَّهُ الْعَالَمَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَأَسْكَنَهَا مَلَائِكَتَهُ الَّذِينَ هُمْ سُفَرَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَحَمَلَةُ أَمْرِهِ وَأَحْكَامِهِ وَخَلَقَ فَوْقَ ذَلِكَ عَرْشَهُ وَكُرْسِيَّهُ لِيُرَكِّزَ فِي نُفُوسِ الْعِبَادِ عَظَمَتَهُ وَاسْتِعْلَاءَ أَوَامِرِهِ عَلَيْهِمْ لِيَنْقَادُوا لَهَا.
وَيُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ قوله: {سَخَرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَحَيُّزِهِ تعالى فِيهَا، وَلَمَّا كَانَتْ جِهَةُ السَّمَاءِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَارْتَكَزَتْ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ فِي نُفُوسِ الْعِبَادِ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الدُّعَاءِ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ لِنُزُولِ الْقَضَاءِ لَا لِتَحَيُّزِ الرَّبِّ سبحانه وَتعالى فِيهَا، وَإِنَّمَا هُوَ تَدْبِيرٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يَرِدُ إلَيْهِمْ مِنْ الْأَوَامِرِ وَمَا يَصْلُحُهُمْ، وَالرَّبُّ سبحانه وَتعالى مُتَعَالٍ عَنْ ذَلِكَ لَا تَصِلُ إلَيْهِ الْعُقول، وَحَسْبُ الْعَبْدِ مَعْرِفَةُ نَفْسِهِ بِالذِّلَّةِ وَالْعَجْزِ وَالْجَهْلِ وَالتَّكْلِيفِ وَامْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ وَكُلِّفَ وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَتَعْظِيمِ الرَّبِّ الَّذِي مِنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُمَا وَعَدَمُ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ الرَّبِّ سبحانه فَالْعُقول تَقْصُرُ دُونَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. اهـ.
من الإعجاز العلمي في القرآن للدكتور زغلول النجار:
بحث بعنوان: من أسرار القرآن:

.الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} [الحديد: 25]:

بقلم د: زغلول النجار:
سورة الحديد سورة مدنية، وهي السورة الوحيدة من سور القرآن الكريم التي تحمل اسم عنصر من العناصر المعروفة لنا والتي يبلغ عددها مائة وخمسة عناصر؛ ويعجب القارئ للقرآن لاختيار هذا العنصر بالذات اسما لهذه السورة التي تدور حول قضية إنزاله من السماء، وبأسه الشديد، ومنافعه للناس..... !!
وتبدأ السورة الكريمة بتأكيد أن كل مافي السماوات والأرض خاضع بالعبودية لله، مسبح بحمده، منزه له عن كل وصف لايليق بجلاله، لأنه تعالى هو العزيز الحكيم، الذي له ملك السماوات والأرض، الذي يحيي ويميت وهو علي كل شيء قدير؛ وتواصل الآيات مزيدا من صفات هذا الخالق العظيم فهو الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، وهو العليم بكل شيء، فلا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء؛ وأنه تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش استواء يليق بجلاله، وأنه (سبحانه) يعلم مايلج في الأرض، ومايخرج منها، وماينزل من السماء، ومايعرج فيها، وأنه مع جميع خلقه أينما كانوا، وفي أي زمان كانوا، فلا الزمان ولا المكان يقف عائقا أمام قدرة الله، وهو تعالى مطلع علي جميع خلقه، بصير بما يعملون، وهو الذي له ملك السماوات والأرض، الذي إليه ترجع الأمور، وأن من الدلائل علي طلاقة قدرته أنه تعالى يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وهو (سبحانه) عليم بذات الصدور، فالكون كله خاضع لإرادته تعالى فهو خالقه ومبدعه، والمتصرف فيه بما يشاء، وهذه الصفات العليا من خصائص الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فلا شريك له في ملكه، ولا منازع له في سلطانه، فهو رب كل شيء ومليكه، بغير شريك ولا شبيه ولا منازع، المسيطر سيطرة مطلقة علي الوجود كله بكل مافيه، ومن فيه، فكل شيء بيديه، وكل شيء راجع إليه، لايخفي شيء عن علمه، ولا يخرج شيء عن أمره، يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور.... !!
ثم تتحرك الآيات بعد ذلك في إيقاع رقيق يخاطب جماعة المؤمنين، وتدعوهم إلي تجسيد إيمانهم بالله ورسوله في بذل الأموال والمهج والأرواح دفاعا عن هذا الدين، وإلي الإنفاق مما جعلوا مستخلفين فيه حتي ينالوا الأجر الكبير من رب العالمين، فالذي يفعل ذلك كأنما يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة وله أجر كريم، وبالإضافة إلي عمومية الدعوة إلي تلك الحقيقة، فهي تذكرة دائمة لجماعة المؤمنين بما بذله السابقون من المهاجرين والأنصار في سبيل الله، حتي يتأسوا بهم في التجرد الكامل، والاخلاص الصادق لدين الله، والبذل والتضحية بالأموال والأنفس من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض فلا تشدهم الحياة الدنيا عن الجهاد في سبيل الله مهما تكن المغريات، ومهما تكن العوائق..... !!
وبعد ذلك تعرض الآيات لحال كل من المؤمنين والمؤمنات في جانب، والمنافقين والمنافقات في جانب آخر يوم العرض الأكبر، وشتان ما بين الحالين.
وتتساءل الآيات عن إمكان أن يكون الوقت قد حان لكي تخشع قلوب المؤمنين لذكر الله، وما أنزل من الحق علي خاتم أنبيائه ورسله حتي لايكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون.
وتؤكد الآيات بعد ذلك مرحلية الحياة الدنيا، وأنها ليست إلا متاع الغرور، فلايجوز لعاقل أن ينخدع بها، ويفني عمره في خدمتها، لاهيا عن الأخرة وهي دار القرار، ولذلك تنادي الآيات بالمسارعة إلي طلب المغفرة من الله، وإلي العمل المخلص الدءوب من أجل الفوز بالجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله؛ وتضيف الآيات أن كل خطب جلل نزل بالأرض أو بالأنفس مدون في كتاب الله من قبل وقوعه، وأن ذلك علي الله يسير، كي ترضي كل نفسي مؤمنة بقدر الله- خيره وشره- وتؤمن أن فيه الخير كل الخير، فلاتبطر عند مسرة، لأن الله تعالى لايحب كل مختال فخور، ولاتجزع عند مضرة لإيمانها بأن ذلك قدر مقسوم، وأجل محتوم، وأنه لاملجأ ولامنجي من الله إلا إليه.... !!
وتنعي الآيات علي الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، لأن الله تعالى كريم يحب كل كريم، ومن يتول عن منهج الله فإن الله هو الغني الحميد.
وبعد هذه المقدمة الطويلة يأتي قلب السورة وسر تسميتها في الآية التي يقول فيها ربنا تبارك وتعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز}.
ثم تأتي الآيات الأربع الأخيرة في السورة لتعرض خط سير رسالة الهداية الربانية، وتاريخ هذا الدين- دين الإسلام الذي علمه ربنا تبارك وتعالى لأبينا آدم عليه السلام، وأنزله علي فترة من الرسل من لدن نبي الله نوح (عليه السلام) إلي خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله (عليه وعليهم أجمعين أفضل الصلاة وأزكي التسليم)، والذي لايرتضي ربنا تبارك وتعالى من عباده دينا سواه بعد أن أكمله، وأتمه، وحفظه في بعثة هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم (صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلي آله وصحبه أجمعين)، وأشارت الآيات إلي حال بعض من أهل الكتاب ومنهم أتباع نبي الله عيسي (عليه السلام)، واختتمت السورة بالدعوة إلي الإيمان بالنبي الخاتم والرسول الخاتم، ففي ذلك دخول في رحمة الله، وفي نوره ومغفرته، وهو سبحانه صاحب الفضل العظيم، والمنن العديدة التي يمن بها علي من يشاء من عباده.
والآية الكريمة التي نحن بصددها تؤكد أن الحديد قد أنزل إنزالا كما أنزلت جميع صور الوحي السماوي، وأنه يمتاز ببأسه الشديد، وبمنافعه العديدة للناس، وهو من الأمور التي لم يصل العلم الإنساني إلي إدراكها إلا في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين.
وهنا يبرز التساؤل: كيف أنزل الحديد؟ وماهو وجه المقارنة بين إنزال وحي السماء وإنزال الحديد؟ ماهو بأسه الشديد؟ وماهي منافعه للناس؟ وقبل الإجابة علي تلك الأسئلة لابد من استعراض سريع للدلالات اللغوية لبعض ألفاظ الآية الكريمة، وكذلك للمواضع التي ورد فيها ذكر (الحديد) في كتاب الله تعالى.

.الدلالات اللغوية لبعض ألفاظ الآية الكريمة:

(النزول) في الأصل هو هبوط من علو، يقال في اللغة: (نزل)، (ينزل)(نزولا)، و(منزلا) بمعني حل، يحل، حلولا؛ والمنزل بفتح الميم والزاي هو (النزول) وهو الحلول، و(نزل) عن دابته بمعني هبط من عليها، و(نزل) في مكان كذا أي حط رحله فيه، و(النزيل) هو الضيف.
ويقال: (أنزله) غيره بمعني أضافه أو هبط به؛ و(استنزله) بمعني (نزله تنزيلا)، و(التنزيل) ايضا هو القرآن الكريم، وهو (الإنزال المفرق)، وهو الترتيب؛ وعلي ذلك فإن الإنزال أعم من التنزيل؛ و(التنزل) هو (النزول في مهلة)، و(النزل) هو ما يهيأ (للنزيل) أي مايعد (للنازل) من المكان، والفراش، والزاد، والجمع (انزال)؛ وهو أيضا الحظ والريع، و(النزل) بفتحتين، و(المنزل) الدار والمنهل أي المورد الذي ينتهل منه لأن به (ماء) أو هو عين ماء ترده الإبل في المراعي، وتسمي المنازل التي في المفاوز علي طرق (السفار)؛ و(المنزلة) مثله، أو هي الرتبة أو المرتبة؛ و(المنزلة) لاتجمع.
ويقال استنزل فلان (بضم التاء وكسر الزاي) أي حط عن مرتبته، و(المنزل) بضم الميم وفتح الزاي (الإنزال)، نقول: {رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين}؛ و(إنزال) الله تعالى نعمه ونقمه علي الخلق هو إعطاؤهم إياها، وقال المفسرون في قول الحق تبارك وتعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى} إن (نزلة) هنا تعني مرة أخرى.
وفي قوله تعالى: {جنات الفردوس نزلا} قال الأخفش: هو من (نزول) الناس بعضهم علي بعض، يقال: ماوجدنا عندك نزلا؛ و(النازلة): الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس، وجمعها (نوازل)؛ و(النزال) في الحرب (المنازلة)؛ و(النزلة) هي الزكمة من الزكام، يقال به (نزلة)، وقد نزل بضم النون.